كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يقول الحق سبحانه: {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99].
وقد أرسل الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ليعدل المُعوجَّ من أمور المنهج. والعوج هو عدم الاستقامة والسوائية، وقد يكون في القيم، وهي ما قد خفي من المعنويات، فتقول: أخلاق فلان فيها عوج، وأمانة فلان فيها عوج.
ويقول الحق سبحانه: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله سبحانه: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [هود: 19].
أما في الأمور المحسة فلا يقال: {عِوَج}، بل يقال: عَوَج، فأنت إذا رأيت شيئًا معوجًا في الأمور المحسة تقَول: عَوَج. لكننا نقرأ في القرآن قول الحق سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا} [طه: 105- 107].
وقد أوردها الحق سبحانه هنا بهذا الشكل لدقة الأداء القرآني؛ لأن هناك عوجًا حسيًا يحسه الإنسان، مثلما يسير الإنسان في الصحراء؛ فيجد الطريق منبسطًا ثم يرتفع إلى ربوة ثم ينبسط مرة أخرى، ثم يقف في الطريق جبل، ثم ينزل إلى وادٍ، وأي إنسان يرى مثل هذا الطريق يجد فيه عوجًا.
أما إذا كنت ترى الأرض مبسوطة مسطوحة كالأرض الزراعية، فقد تظن أنها أرض مستوية، ولكنها ليست كذلك؛ بدليل أن الفلاح حين يغمر الأرض بالمياه، يجد بقعة من الأرض قد غرقت بالماء، وقطعة أخرى من نفس الأرض لهم تمسها المياه، وبذلك نعرف أن الأرض فيها عوج لحظة أن جاء الماء، والماء كما نعلم هو ميزان كل الأشياء المسطوحة.
ولذلك حين نريد أن نحكم استواء جدار أو أرض، فنحن نأتي بميزان الماء؛ لأنه يمنع حدوث أي عوج مهما بلغ هذا العوج من اللطف والدقة التي قد لا تراها العين المجردة.
وفي يوم القيامة يأتي أصحاب العوج في العقيدة، ويصورهم الحق سبحانه في قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا} [طه: 108].
هم إذن يصطفُّون بلا اعوجاج، كما يصطف المجرمون تبعًا لأوامر من يقودهم إلى السجن، في ذلة وصَغَار ولا ينطقون إلا همسًا.
وهنا يقول الحق سبحانه: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 19].
والسبب في صَدِّهم عن سبيل الله أنهم يريدون الحال مُعْوجًا ومائلًا، وأن يُنفِّروا الناس من الإيمان ليضمنوا لأنفسهم السلطة الزمنية ويفسدون في الأرض؛ لأن مجيء الإصلاح بالإيمان أمر يزعجهم تمامًا، ويسلب منهم ما ينتفعون به بالفساد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض}
والإعجاز هو الامتناع، وأعجزت فلانًا، أي: برهنت على أنه ممتنع عن الأمر وغير قادر عليه.
وقد تجلَّى الإعجاز على سبيل المثال في عجز هؤلاء الذين أنكروا أن القرآن معجزة أن يأتي بآية من مثله.
والمعجز في الأرض هو من لا تقدر عليه.
ويبيِّن لنا الحق سبحانه في هذه الآية أن هؤلاء الكافرين لا يُعجزون الله في الأرض، بدليل أن هناك نماذج من أمم قد سبقت وكفرت، فمنهم من أخذته الريح، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من غرق، وإذا انتقلوا إلى الآخرة فليس لهم ولي أو نصير من دون الله؛ لأن الولي هو القريب منك، ولا يقرب منك إلا من تحبه، ومن ترجو خيره.
فإذا قَرُب منك إنسان له مواهب فوق مواهبك، نضح عليك من مواهبه، وإذا كان من يقرب منك قويًا وأنت ضعيف، ففي قوته سياج لك، وإن كان غنيًا، فغناه ينضح عليك، وإن كان عالمًا أفادك بعلمه، إن كان حليمًا أفادك بحلمه لحظة غضبك، وكل صاحب موهبة تعلو موهبتك وأنت قريب منه، فسوف يفيدك من موهبته.
والولي هو النصير أيضًا؛ لأنك أول ما تستصرخ سيأتي لك القريب منك.
وهؤلاء الذين يصدُّون عن سبيل الله لن يجدوا وليًّا ولا نصيرًا في الآخرة وإن وجدوه في الدنيا لأن كل إنسان في الآخرة سيكون مشغولًا بنفسه: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2].
ويقول الحق سبحانه: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33].
وكذلك يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34- 37].
إذن: فهؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله لا يُعجزون الله في الأرض، ولا يجدون الولي أو النصير في الآخرة، بل: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} [هود: 20].
ونحن نفهم الضِّعْفَ على أنه الشيء يصير مرتين، ونظن أن في ذلك قوة، ونقول: لا؛ لأن الذي يأتي ليسند الشيء الأول ويشفع له، كان الأول بالنسبة له ضعيف.
إذن: فالمُضَاعفة هي التي تظهر ضعف الشيء الذي يحتاج إلى ما يدعمه.
ومُضَاعفة العذاب أمر منطقي لهؤلاء الذين أرادوا الأمر عوجًا، وصدوا عن سبيل الله تعالى، وأرادوا بذلك إضلال غيرهم.
وقول الحق سبحانه: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} [هود: 20].
لا يتناقض مع قول الحق: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164].
لأن هؤلاء الذين صدوا عن سبيل الله ليس لهم وزر واحد، بل لهم وِزْران: ووزر الضلال في ذواتهم، ووزر الإضلال لغيرهم.
وهناك آية تقول: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68- 69].
أي: أن مَنْ يفعل ذلك يَلْقَ مضاعفة للعذاب.. لماذا؟
لأنه كان أسوة لغيره في أن يرتكب نفس الجرم.
والحق سبحانه وتعالى لا يريد للذنوب أن تنتشر، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يحض على أن يرى المؤمنون من ارتكب الجُرْم لحظةَ العقاب، مثلما يقول سبحانه في الزنا: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2].
وحين يرى المؤمنون وقوع العقوبة على جريمة ما، ففي ذلك تحذير من ارتكاب الجُرْم، وحدّ من وقوع الجرائم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يضاعف العذاب لأولئك الذين صَدُّوا عن سبيل الله، وأرادوا إضلال غيرهم، فارتكبوا جريمتين:
أولاهما: ضلالهم.
والثانية: إضلالهم لغيرهم.
ولذلك تجد بعضًا من الذين أضلُّوا يقولون يوم القيامة: {رَبَّنَا أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29].
ويقولون أيضًا: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 6768].
إذن: فالدعوة إلى الانحراف إضلال، وعمل الشيء بالانحراف إضلال؛ لأنه أسوة أمام الغير.
ومضاعفة العذاب لا تعني الإحراق مرة واحدة في النار؛ لأن الحق سبحانه لو تركنا للنار لتحرقنا مرة واحدة لانتهى الإيلام؛ ولذلك أراد الحق سبحانه أن يكون هناك عذاب بعد عذاب.
يقول الحق سبحانه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56].
فهو عذاب على الدوام.
أو أن العذاب الذي يضاعف له لون آخر، فهناك عذاب للكفر، وهناك عذاب للإفساد.
يقول الحق سبحانه: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
فالعذاب على الكفر لا يلغي العذاب على المعاصي التي يرتكبها الكافر.
فإذا كانت الشاة القرناء يُقتصُّ للشاة الجلحاء منها، أي: أن الشاة التي لها قرون وتنطح الشاة التي لا قرون لها، فيوم القيامة يتم القصاص منها، رغم أنه لا حساب للحيوانات؛ لأنها لا تملك الاختيار، ولكنها سوف تُستخدم كوسيلة إيضاح لميزان العدالة.
ويقول الحق سبحانه: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20].
أي: ما كانوا يستطيعون الاستفادة من السمع رغم وجود آلة السمع، فلم يستمعوا لبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا استطاعوا الاستفادة من أبصارهم ليروا آيات الله سبحانه وتعالى في الكون، فكأنهم صُمٌّ عُمْيٌ، أو يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والإبصار.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38].
أي: أن سمعهم وأبصارهم ستكون سليمة وجيدة في الآخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ}
إذن: فهم خسروا أنفسهم؛ لأنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة زمنها قليل، أخذوا عذابًا آجلًا زمنه خالد.
وفي هذا ظلم للنفس، وهذه قمة الخيبة، وهذا يدل على اختلال الموازين، وأنت قد تظلم غيرك فتأخذ من عنده بعضًا من الخير لتستفيد به، وبذلك تظلم الغير لصالح نفسك.
وظلم النفس يعني أنك تعطيها متعة عاجلة وتغفل عنها عذابًا آجلًا، والمتعة العاجلة لها مدة محدودة، أما العذاب فلا مدة تحدده.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [هود: 21].
أي: لم يهتد إليهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله، ولو كان لهؤلاء الذين عبدوهم قوة يوم القيامة؛ لهرعوا إليهم ليستنقذوهم من العذاب، ولكنهم بلا حول ولا قوة؛ لأن الحق سبحانه قد حكم على هؤلاء الكافرين، وقال: {وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [التوبة: 74].
وكذلك هؤلاء الآلهة المعبودة من دون الله تعالى، أو شركاء مع الله، لا يهتدون إليهم، حتى بفرض قدرتهم على النصرة، فتلك الآلهة أو الشركاء لا يهتدون إليهم، ولا يعرفون لهم مكانًا.
وقول الحق سبحانه: {وَضَلَّ عَنْهُمْ} [هود: 21]. أي: غاب وتاه عنهم. وقوله سبحانه: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [هود: 21]. أي: ما كانوا يدَّعونه كذبًا. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة}
واختلف العلماء في معنى كلمة: {لاَ جَرَمَ}، والمعنى العام حين تسمع كلمة: {لاَ جَرَمَ} أي: حق وثابت، أو لابد من حصول شيء محدد. وحين يقول الحق سبحانه: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62].
أي: حَقَّ وثبت أن لهم النار؛ نتيجة ما فعلوا من أعمال، وتلك الأعمال مقدمة بين يدي عذابهم، فحين نسمع: {لاَ جَرَمَ} ومعها العمل الذي ارتكبوه، تثق في أنه يحق على الله سبحانه أن يعذبهم.
وقال بعض العلماء: إن معنى: {لاَ جَرَمَ} حق وثبت. وقال آخرون: إن معنى: {لاَ جَرَمَ} هو لابد ولا مفر.
والمعنيان ملتقيان لأن انتفاء البُدِّية يدل على أنها ثابتة. وكان يجب على العلماء أن يبحثوا في مادة الكلمة، ومادة الكلمة هي الجرم، والجرم: هو القطع، ويقال: جرم يده، أي: قطع يده.
وقول الحق سبحانه هنا: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22].
أي: لا قَطْع لقول الله فيهم بأن لهم النار، ولا شيء يحول دون ذلك أبدًا، ولابد أن ينالوا هذا الوعيد؛ وهكذا التقى المعنى بلابد. إذن: فساعة تسمع كلمة {لا جرم}، أي: ثبت، أو لابد من حدوث الوعيد.
وأيضًا تجد كلمة الجريمة مأخوذة من الجرم، وهي قطع ناموس مستقيم، فحين نقرر ألا يسرق أحد من أحد شيئًا، فهذا ناموس مستقيم، فإن سرق واحد من آخر، فهو قد قطع الأمن والسلام للناس، وأيُّ جريمة هي قَطْع للمألوف الذي يحيا عليه الناس.
وأيضًا يقال: جرم الشيء أي: اكتسب شرَّه، ومنه الجريمة، ولذلك يقال: من الناس من هو جارم وهي اسم فاعل من الفعل: جرم، مثل كلمة كاتب من الفعل كتب ومجروم عليه وهي اسم مفعول، مثلها مثل مكتوب. فإن أخذت الجريمة من قطع الأمر السائد في النظام، فهؤلاء الذين افتروا على الله وظلموا وصدوا عن سبيل الله، فلا جريمة في أن يعذبهم الله بالنار.
ومثل هذه العقوبة ليست جريمة؛ لأن العقوبة على الجريمة ليست جريمة، بل هي مَنْع للجريمة. وهكذا تلتقي المعاني كلها، فحين نقول: {لاَ جَرَمَ} فذلك يعني أنه لا جريمة في الجزاء؛ لأن الجريمة هي الآثام العظيمة التي ارتكبوها.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]. وقد سمَّاها الحق سيئة؛ لأنها تسيء إلى المجتمع أو تسيء إلى الفرد نفسه. ولهذا يقول الحق سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
وهكذا نجد أن هناك معاني متعددة لتأويل قول الحق سبحانه: {لاَ جَرَمَ}، فهي تعني: لا قطع لقول الله في أن المشركين سيدخلون النار، أو لابد أن يدخلوا النار، أو حق وثبت أن يدخلوا النار، أو لا جريمة من الحق سبحانه عليهم أن يفعل بهم هكذا؛ لأنهم هم الذين فعلوا ما يستحق عقابهم.
ويقول الحق سبحانه: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22].
وكلمة {الأخسرون} جمع أخسر وهي أفعل تفضيل لخاسر، وخاسر اسم فاعل مأخوذ من الخسارة.
والخسارة في أمور الدنيا أن تكون المبادلة إجحافًا لواحد، كأن يشتري شيئًا بخمسة قروش وكان يجب أن يبيعها بأكثر من خمسة قروش، لكنه باعها بثلاثة قروش فقط، فبعد أن كان يرغب في الزيادة، باع الشيء بمنا ينقص عن قيمته الأصلية. ومن يفعل ذلك يسمى خاسر، والخسارة في الدنيا موقوتة بالدنيا، ومن يخسر في صفقة قد يربح في صفقة أخرى.
ولنفترض أنه قد خسر في كل صفقات الدنيا، فما أقصر وقت الدنيا! لأن كل ما ينتهي فهو قصير، لكن خسارة الآخرة لا نهاية لها.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103- 104].
وهكذا وصفهم الحق سبحانه مرة بأنهم الأخسرون، ومرة يقول سبحانه واصفًا الحكم عليهم: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} [الزمر: 15]. وهو خسران محيط يستوعب كل الأمكنة.
وشاء الحق سبحانه بعد ذلك أن يأتي بالمقابل لهؤلاء، وفي ذلك فيض من الإيناسات المعنوية؛ لأن النفس حين ترى حكمًا على شيء تأنس أن تأخذ الحكم المقابل على الشيء المقابل.
فحين يسمع الإنسان قول الحق سبحانه: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]. فلابد أن يأتي إلى الذهن تساؤل عن مصير الفُجَّار، فيقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]. وهذا التقابل يعطي بسطة النفس الأولى وقبضة النفس الثانية، وبين البسطة والقبضة توجد الموعظة، ويوجد الاعتبار.
ويأتي الحق سبحانه هنا بالمقابل للمشركين الذين صدوا عن سبيل الله، فصاروا إلى النار، والمقابل هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح.
فيقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}. اهـ.